الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْتِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ بَابُ الدُّخُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَيْهَا: لَكَفَى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ. فَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، وَالْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَالسَّعْيِ وَالْكَدْحِ، وَتَحَمُّلِ الْأَثْقَالِ، وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَهِيَ يَقَظَةٌ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَيَاةِ نَوْمٌ، وَهِيَ عَيْنٌ، وَمَا قَبْلَهَا أَثَرٌ، وَهِيَ حَيَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ، وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، حَيْثُ لَا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ؛ حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ، وَالْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، حَيْثُ لَا عِبَارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي بَلَدٍ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ، وَلَا إِلْفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَاكِنِهِ، فَالنَّفْسُ- لِإِلْفِهَا لِهَذَا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمَانًا طَوِيلًا- تَكْرَهُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ مُفَارَقَتَهُ.وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْنَا بِخَبَرٍ إِلَهِيٍّ عَلَى يَدِ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَنْصَحِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ شَوَاهِدُهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ هَذَا الظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالْخَيَالِ الْمُضْمَحِلِّ، وَالْعَيْشِ الْفَانِي الْمَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ. وَمَا هَذَا- وَاللَّهِ- بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ- يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ وَالْحِجَارَةَ- إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ.فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ. وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ الْعَامِلُونَ، وَيَخْسِرُ الْمُبْطِلُونَ.وَمِنْ طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ- لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ- يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، لِمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى». وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ: فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، مَا أَشَدَّ مُعَانَدَتَهُ لِلدِّينِ وَالْعَقْلِ! هَذَا نَفْسُ عَدُوِّ الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، يَا مِسْكِينُ أَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَوْتَ تَسَاوَى فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَصَارُوا جَمِيعًا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، أَيَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْعَاقِبَةِ؟ أَمَا تَسَاوَى قَوْمٌ سَافَرُوا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي الطَّرِيقِ؟ فَلَمَّا بَلَغُوا الْقَصْدَ نَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ كَانَ مُعَدًّا لَهُ، وَتُلُقِّي بِغَيْرِ مَا تُلُقِّيَ بِهِ رَفِيقُهُ فِي الطَّرِيقِ؟ أَمَا لِكُلِّ قَوْمٍ دَارٌ فَأُجْلِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ؟ وَقُوبِلَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَهَذَا بِضِدِّهِ؟ أَمَا قَدِمَ عَلَى الْمَلِكِ مَنْ جَاءَهُ بِمَا يُحِبُّهُ فَأَكْرَمَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ جَاءَهُ بِمَا يُسْخِطُهُ فَعَاقَبَهُ عَلَيْهِ؟ أَمَا قَدِمَ رَكْبُ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضُهُمْ فِي قُصُورِهَا وَبَسَاتِينِهَا وَأَمَاكِنِهَا الْفَاضِلَةِ، وَنَزَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْكِلَابِ؟ أَمَا قَدِمَ اثْنَانِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ الْوَاحِدَةِ، فَصَارَ هَذَا إِلَى الْمُلْكِ، وَهَذَا إِلَى الْأَسْرِ وَالْعَنَاءِ؟وَقَوْلُكَ سَلِ الْأَرْضَ عَنْهُمَا أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَاهَا، فَأَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا قَدْ ضَمَّتْ أَجْسَادَهُمْ وَجُثَثَهُمْ وَأَوْصَالَهُمْ، لَا كُفْرَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ، وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَلَا حِلْمَهُمْ وَسَفَهَهُمْ، وَلَا طَاعَتَهُمْ وَمَعْصِيَتَهُمْ، وَلَا يَقِينَهُمْ وَشَكَّهُمْ، وَلَا تَوْحِيدَهُمْ وَشِرْكَهُمْ، وَلَا جَوْرَهُمْ وَعَدْلَهُمْ، وَلَا عِلْمَهُمْ وَجَهْلَهُمْ، فَأَخْبَرَتْنَا عَنْ هَذِهِ الْجُثَثِ الْبَالِيَةِ وَالْأَبْدَانِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَوْصَالِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَقَالَتْ هَذَا خَبْرُ مَا عِنْدِي.وَأَمَّا خَبْرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْهَا كُتُبَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرُسُلَهُ الصَّادِقِينَ، وَخُلَفَاءَهُمُ الْوَارِثِينَ، سَلُوا الْقُرْآنَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَسَلُوا مَنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ الْعَارِفِينَ، وَسَلُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُمَا الشَّاهِدَانِ الْمَقْبُولَانِ، وَسَلُوا الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ فَعِنْدَهَا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تَعَالَى اللَّهُ- أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ- عَنْ هَذَا الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ.ثُمَّ قَالَ: النَّاظِرُ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَالْأَوَّلُ: يَحَارُ فِيهَا، فَإِنَّ صُوَرَهَا وَأَشْكَالَهَا وَتَخَاطِيطَهَا تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وَحِسَّهُ، وَتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وَقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ حِسِّهِ، لَا يُفِيدُهُ مِنْهَا ثَمَرَةَ الِاعْتِبَارِ، وَلَا زُبْدَةَ الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَدَ الِاعْتِبَارَ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيَارَ ثَانِيًا.وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْأَشْيَاءِ: فَإِنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْعُبُورِ مِنْ صُوَرِهَا إِلَى حَقَائِقِهَا وَالْمُرَادِ بِهَا، وَمَا اقْتَضَى وُجُودُهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذَا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَرَاتِبِهَا، وَمَعْرِفَةَ نَافِعِهَا مِنْ ضَارِّهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَبَاقِيهَا مِنْ فَانِيهَا، وَقِشْرِهَا مِنْ لُبِّهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْوَسِيلَةِ وَالْغَايَةِ، وَبَيْنَ وَسِيلَةِ الشَّيْءِ وَوَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أَنَّ الدُّنْيَا قِشْرُهُ وَالْآخِرَةَ لُبُّهُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَحَلُّ الزَّرْعِ، وَالْآخِرَةَ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَعْبَرٌ وَمَمَرٌّ، وَالْآخِرَةَ دَارُ مُسْتَقَرٍّ.وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا طَرِيقٌ وَمَمَرٌّ كَانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزَّادِ لِقَرَارِهِ، وَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلِاسْتِيطَانِ وَالْخُلُودِ، وَلَكِنْ لِلْجَوَازِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، هُوَ الْمَنْزِلُ وَالْمُتَبَوَّأُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَبِكُلِّ إِشَارَةٍ وَدَلِيلٍ، وَنُصِبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمٌ، وَضُرِبَ لِأَجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأَتِهِ الْأُولَى وَمَبَادِئِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَأُوْضِحَتْ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَأُعْذِرَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِعْذَارِ، وَأُمْهِلَ أَتَمَّ الْإِمْهَالِ، فَاسْتَبَانَ لِذِي الْعَقْلِ الصَّحِيحِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنَّ الظَّعْنَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ضَرُورِيٌّ، وَالِانْتِقَالَ عَنْهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ لَهُ مَحَلًّا آخَرَ لَهُ قَدْ أُنْشِئَ وَلِأَجْلِهِ قَدْ خُلِقَ وَلَهُ هُيِّئَ، فَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ وَقُدُومُهُ بِلَا رَيْبٍ عَلَيْهِ، وَأَنَّ دَارَهُ هَذِهِ مَنْزِلُ عُبُورٍ، لَا مَنْزِلُ قَرَارٍ.وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ نَظَرَ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَحْدَهَا: وَجَدَهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَكْمَلَ مِنْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْمَنَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقَظَةِ، وَكَالظِّلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْصِ، وَسَمِعَهَا كُلَّهَا تُنَادِي بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَفَاطِرُهَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وَتُنَادِي بِلِسَانِ الْحَالِ، بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا بِصَرِيحِ الْمَقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} وقال تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُسَابَقَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا.: فَقَالَ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ عَنْ بَعْضِ الزَّنَادِقَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ- وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُتَطَبِّبُ-: فَقَالَ: وَمَا عَلَيْنَا مِنْ جَهْلِهِ، إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ تِرْحَالُهُ؟ وَلَكِنَّنَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ تِرْحَالُنَا وَتِرْحَالُهُ، أَمَّا تِرْحَالُهُ فَإِلَى دَارِ الْأَشْقِيَاءِ، وَمَحِلِّ الْمُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالْمُكَذِّبِينَ بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}.وَأَمَّا تِرْحَالُنَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُصَدِّقُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِلَى نَعِيمٍ دَائِمٍ، وَخُلُودٍ مُتَّصِلٍ، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَأَقْدَرِ الْقَادِرِينَ، وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، الْأَوَّلُ بِالْحَقِّ، الْمَوْجُودُ بِالضَّرُورَةِ، الْمَعْرُوفُ بِالْفِطْرَةِ، الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ الْعُقُولُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَوْجُودَاتُ، وَشَهِدَتْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَقَرَّتْ بِهَا الْفِطَرُ، الْمَشْهُودُ وَجُودُهُ وَقَيُّومِيَّتُهُ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، بِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَبَثَّ بِهِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالِهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرِينِ حَاجِزًا} الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ إِذَا نَادَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيُفَرِّجُ الْكُرُبَاتِ، وَيُقِيلُ الْعَثَرَاتِ، الَّذِي يَهْدِي خَلْقَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَيَرْزُقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَبِيدِهِ، الَّذِي يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الْمُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ نَائِبَةٍ وَفَادِحَةٍ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهُ كُلُّ بِرٍّ وَكَرَامَةٍ، الَّذِي عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الْأَصْوَاتُ، وَسَبَّحَتْ بِحَمْدِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ، الَّذِي لَا تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ إِلَّا بِحُبِّهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا تَزْكُو الْعُقُولُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُدْرَكُ النَّجَاحُ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، وَلَا تَحْيَا الْقُلُوبُ إِلَّا بِنَسِيمِ لُطْفِهِ وَقُرْبِهِ، وَلَا يَقَعُ أَمْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَهْتَدِي ضَالٌّ إِلَّا بِهِدَايَتِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ ذُو أَوَدٍ إِلَّا بِتَقْوِيمِهِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ إِلَّا بِتَفْهِيمِهِ، وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ إِلَّا بِكِلَاءَتِهِ، وَلَا يُفْتَتَحُ أَمْرٌ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَلَا يُدْرَكُ مَأْمُولٌ إِلَّا بِتَيْسِيرِهِ، وَلَا تُنَالُ سَعَادَةٌ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَا طَابَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ، الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَضْلًا وَبِرًّا.فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَالرَّبُّ الْحَقُّ، وَالْمَلِكُ الْحَقُّ، وَالْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، الْمُبَرَّأُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لَا يَبْلُغُ الْمُثْنُونَ- وَإِنِ اسْتَوْعَبُوا جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الثَّنَاءِ- ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ ثَنَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْجَارُ.وَأَمَّا الدَّارُ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ حُسْنَهَا وَبَهَاءَهَا، وَسِعَتَهَا وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا وَرُوحَهَا وَرَاحَتَهَا، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَسَرَّاتِ، الْخَالِيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَكِّدَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ.فَتِرْحَالُنَا أَيُّهَا- الصَّادِقُونَ الْمُصَدِّقُونَ- إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بِإِذْنِ رَبِّنَا وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ.وَتِرْحَالُ الْكَاذِبِينَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ- الطَّالِبِينَ لِمَرْضَاتِهِ، السَّاعِينَ فِي طَاعَتِهِ، الدَّائِبِينَ فِي خِدْمَتِهِ، الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ- وَبَيْنَ الْمُلْحِدِينَ- السَّاعِينَ فِي مَسَاخِطِهِ، الدَّائِبِينَ فِي مَعْصِيَتِهِ، الْمُسْتَفْرِغِينَ جُهْدَهُمْ فِي أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ- فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ وَالْعُبُورِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا الظَّنِّ السَّيِّئِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَحِكْمَتِهِ.
فَلِلرُّسُلِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ- الَّتِي هِيَ يَقْظَةٌ مِنْ نَوْمِ الدُّنْيَا- أَكْمَلُهَا وَأَتَمُّهَا، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاةِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَكُونُ شَوْقُهُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَسَعْيُهُ وَحِرْصُهُ عَلَى الظَّفَرِ بِهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
|